معرفة

«بلعام بن باعوراء» شبهه القرآن بالكلب: فهل كان نبياً «مرتشياً»؟

هل كان تشبيه القرآن لرجل بأنه كالكلب مقصود به بلعام بن باعوراء أم أمية بن الصلت، وما حكاية كل منهما؟

future بلعام والملاك، لوحة لغوستاف جاغر 1836

أورد القرآن الكريم حكايات بعض السابقين، وكان منها ما جاء في قول الله تعالى بسورة الأعراف: «واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين (*) ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون».

أشارت عديد من التفاسير إلى أن وصف «الكلب» أطلق على رجل من بني إسرائيل عارض موسى، عليه السلام، يسمى بلعام بن باعواء، فمن هو وما قصته؟

من هو بلعام بن باعوراء؟

عند تفسير الإمام القرطبي لهذه الآيات قال، إن أهل الكتاب ذكروا قصة عرفوها في التوراة، واختلفوا في تعيين المقصود بالآيات، فعند ابن مسعود وابن عباس: هو بلعام بن باعوراء، ويقال ناعم، من بني إسرائيل في زمن موسى، عليه السلام، وهو المعني بقوله «واتل»، وكان في مجلسه 12 ألف محبرة للمتعلمين الذين يكتبون عنه.

ونقل الإمام ابن كثير في تفسيره، قول ابن مسعود أيضاً، إن الآية نزلت في رجل من بني إسرائيل، يقال له بلعم بن باعوراء، وزاد على رواية ابن عباس، أنه رجل من أهل اليمن.

أما مالك بن دينار فيقول، «بُعث بلعام بن باعوراء إلى ملك مدين ليدعوه إلى الإيمان، فأعطاه وأقطعه فاتبع دينه، وترك دين موسى، ففيه نزلت الآيات.

وروى المعتمر بن سليمان عن أبيه، قوله، «كان بلعام بن باعوراء قد أوتي النبوة، وكان مجاب الدعوة، فلما أقبل موسى في بني إسرائيل يريد قتال الجبارين، سأل الجبارون بلعام بن باعوراء أن يدعو على موسى، فعندما دعا تحول لسانه بالدعاء على أصحابه».

وبحسب القرطبي، عندما عاتبه القوم في ذلك، رد عليهم قائلاً، «لا أقدر على أكثر مما تسمعون»، واندلع لسانه على صدره فقال، «قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة، فلم يبق إلا المكر والخديعة والحيلة، وسأمكر لكم، فإنى أرى أن تخرجوا إليهم فتياتكم فإن الله يبغض الزنى، فإن وقعوا فيه هلكوا»، ففعلوا فوقع بنو إسرائيل في الزنى، فأرسل الله عليهم الطاعون فمات منهم 70 ألفاً.

وأورد ابن عساكر، في كتابه الأشهر «تاريخ مدينة دمشق» أن نسب بلعام بن باعوراء يعود إلى لوط، عليه السلام، فيقول في تعريفه، «بلعم ويقال ابن أبر، ويقال ابن أور، ويقال ابن باعر بن شتوم بن قرشيم بن ماب بن لوط بن جران بن أزم، كان يسكن قرية من قرى البلقاء (تقع بالأردن)، وهو الذي كان يعرف اسم الله الأعظم، فانسلخ من دينه، له ذكر في القرآن».

اسم الله الأعظم

لكن هناك رواية أخرى، نقلها الإمام القرطبي عن الثعلبي وغيره، أن بلعام بن باعوراء دعا ألا يدخل موسى مدينة الحبارين، فاستجيب له وبقي في التيه، فقال موسى، «يا رب بأي ذنب بقينا في التيه»، فقال، «بدعاء بلعام»، قال، «فكما سمعت دعاءه عليّ فاسمع دعائي عليه»، فدعا موسى أن ينزع الله عنه الاسم الأعظم، فسلخه الله ما كان عليه.

وفي رواية ثالثة، يقول أبو حامد الغزالي في كتابه «منهاج العارفين»، «سمعت بعض العارفين يقول إن بعض الأنبياء سأل الله تعالى، عن أمر بلعام وطرده، بعد تلك الآيات والكرامات، فقال الله تعالى، (لم يشكرني يوماً من الأيام على ما أعطيته، ولو شكرني على ذلك مرة لما سلبته)».

وهنا سؤال يطرح نفسه، هل أوتي بلعام بن باعوراء كتاباً أم نبوة؟ وفي الإجابة عليه نقل صاحب «تفسير القرطبي» عن عكرمة بن أبي جهل قوله، «كان بلعام نبياً وأوتي كتاباً، وقال مجاهد، إنه أوتي النبوة، فرشاه قومه على أن يسكت ففعل، وتركهم على ما هم عليه».

وعارض أبو الحسن الماوردي هذه الرواية، في مؤلفه «النكت والعيون»، قائلاً، «هذا غير صحيح؛ لأن الله تعالى لا يصطفي لنبوته إلا من علم أنه لا يخرج عن طاعته إلى معصيته».

أقوال أخرى في سبب نزول الآيات

ورغم كل الروايات السابقة التي ذكرت أن المقصود بالآيات بلعام بن باعوراء، فإن هناك أخرى أشارت إلى أنها نزلت في أناس آخرين، فقد روى سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن ابن عباس أن المقصود صيفي بن الراهب (عاش أيام النبي)، وقال قتادة وكعب، «كان رجلاً من أهل البلقاء، وكان يعلم الاسم الأكبر، وكان مقيماً ببيت المقدس مع الجبارين».

 كما نقل عن عبدالله بن عمرو بن العاص وزيد بن أسلم، قولهما إن هذه الآيات «نزلت في أمية بن أبي الصلت الثقفي (الشاعر الجاهلي)، وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولاً في ذلك الوقت، وتمنى أن يكون هو ذلك الرسول، فلما أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم، حسده وكفر به، وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (آمن شعره وكفر قلبه».

ونقل ابن كثير هذا القول أيضاً، عن بني ثقيف؛ إذ أوضح أنها قالت، هو أمية بن أبي الصلت، وقال شعبة عن يعلى بن عطاء عن نافع بن عاصم عن عبدالله بن عمرو في قوله، «وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِىۤ ءاتَيْنَـٰهُ ءَايَـٰتِنَا»، هو صاحبكم أمية بن أبي الصلت، وقد روي من غير وجه عنه، وهو صحيح إليه.

ويوفق الإمام ابن كثير بين روايتي بلعام بن باعوراء وأمية بن الصلت، بقوله: «وكأنه إنما أراد أن أمية بن أبي الصلت يشبهه، فإنه كان قد اتصل إليه علم كثير من علم الشرائع المتقدمة، لكنه لم ينتفع بعلمه، فإنه أدرك زمان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وبلغته أعلامه وآياته ومعجزاته، وظهرت لكل من له بصيرة، ومع هذا اجتمع به ولم يتبعه، وصار إلى موالاة المشركين ومناصرتهم وامتداحهم، ورثى أهل بدر من المشركين بمرثاة بليغة، قبحه الله».

وذكرت بعض الأحاديث، أنه ممن آمن لسانه ولم يؤمن قلبه، فإن له أشعاراً ربانية وحكماً وفصاحة، لكنه لم يشرح الله صدره للإسلام.

وبعد الاستفاضة في عرض الروايات خلص ابن كثير إلى أن المشهور في سبب نزول هذه الآية الكريمة، هو رجل من المتقدمين في زمن بني إسرائيل، كما قال ابن مسعود وغيره من السلف، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، «هو رجل من مدينة الجبارين يقال له بلعام، وكان يعلم اسم الله الأكبر، وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم وغيره من علماء السلف: كان مجاب الدعوة، ولا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه».

هل انسلخت منه النبوة؟

وتابع ابن كثير، «وأغرب بل أبعد بل أخطأ، من قال كان قد أوتي النبوة فانسلخ منها، حكاه ابن جرير عن بعضهم، ولا يصح، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: لما نزل موسى بهم، يعني بالجبارين، ومن معه أتاه، يعني بلعم، أتاه بنو عمه وقومه، فقالوا: إن موسى رجل حديد، ومعه جنود كثيرة، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا، فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه، قال إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه ذهبت دنياي وآخرتي، فلم يزالوا به حتى دعا عليهم، فسلخه الله ما كان عليه، فذلك قوله تعالى: (فَٱنْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَـٰنُ)».

كما حكى ابن عساكر أيضاً قصة أخرى إذ يقول، «حدثنا سفيان بن أبي سعد الأعور عن ابن عباس في قوله تعالى: (الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها)، هو رجل أعطي ثلاث دعوات يستجاب له فيهن، وكانت له امرأة يقال لها البسوس، وكان له منها ولد، وكان لها محباً، فقالت اجعل لي منها دعوة واحدة، قال، فلك واحدة، فما تريدين، قالت، ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة من بني إسرائيل، فدعا لها فجعلت أجمل امرأة من بني إسرائيل، فلما علمت أن ليس فيهم مثلها رغبت عنه، وأرادت شيئاً آخر، فدعا الله عليها أن يجعلها كلبة نباحة، فصارت كلبة نباحة فذهبت فيها دعوتان، فجاء بنوها فقالوا، أليس بنا على هذا قرار وقد صارت أمنا كلبة نباحة يعيرنا الناس بها، فادع الله أن يردها إلى الحالة التي كانت عليها، فدعا الله فعادت كما كانت، فذهبت الدعوات الثلاث، وهي البسوس»، وذكر ابن كثير هذه الرواية أيضاً، لكنه أكد أن هذا «غريب».

معارضة لقصة بلعام بن باعوراء

الطروحات السابقة، وما تضمنت من دعوة بلعام بن باعوراء على سيدنا موسى، عليه السلام، لم تلق استحساناً من البعض، منهم المؤلف عبدالجليل الفهداوي الذي قال في كتابه المعنون بـ«خوارق العادات عند المسلمين»، إذ يقول إن هذه الرواية مما لا يسلم بها، ووضع عدة أدلة على ذلك، منها:

- كيف يستجيب الله دعاء معارض للنبي، والداعي باطل، وموسى، عليه السلام، وقومه على الحق.

- كونه يعرف اسم الله الأعظم لا يبرر ذلك؛ لأنه وقف موقفاً منحرفاً، فلا يؤتيه الله سؤله.

- كون بني إسرائيل أصابهم ما أصابهم، وكتب الله تعالى عليهم التيه بسبب دعاء بلعام، وهذا أمر مرفوض، وليس عندنا ما يؤيده، فلا يعتمد عليه.

ودعم الفهداوي حديثه، بأن الله، سبحانه وتعالى، أخبرنا بأن تيه بني إسرائيل كان بسبب رفضهم دخول الأراضي المقدسة، في قوله عز وجل: «قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ».

وعند ذكره للآيات، أوضح محمد جابر الفياض، في كتابه «الأمثال في القرآن الكريم»، أنه إشارة إلى بلعام بن باعوراء، معلقاً: «يبدو لي أنهم قد أصابوا في هذا التوجيه، وترجيح عبد المتعال الصعيدي لما قيل في المثل، من أنه مثل لكل من يعرف الهدى ويعرض عنه، لا يتعارض وما ذكره المفسرون، فمعلوم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقد صرح القرآن بشمول حكم المثل لكل مكذب بآيات الله بعد معرفته بها، فقال، (ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا)».

وتابع الفياض حديثه: «يبدو لي والله أعلم، أن الإشارة الأولى في المثل تتجه إلى حادث معين لشخص معين، وأن القوم معينون، فقال تعالى: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا)، فالضمير في عليهم يعود على أولئك القوم الذين وقفوا على أمر هذا الذي ذكرهم القرآن بأمره وقصته، وكذلك قوله: (ذلك مثل القوم...)، فالقوم: اليهود، وصاحب القصة: بلعام الذي كان قد عرف عندهم بـ(بفيلسوف الشعب الكافر)».

لماذا شبهه الله بالكلب؟

أما عن قصة تشبيه الله، عز وجل، له بـ«الكلب»، فذكر صاحب كتاب «تاريخ مدينة دمشق»: أخبرنا عبدالرزاق، أخبرنا معمر عن الكلبي في قوله، «(ولكنه أخلد إلى الأرض)، قال، مال إلى الدنيا وركن إليها، فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، فذلك الكافر هو ضال وعظته أو لم تعظه»، كما نقل عن ابن جبير في قوله تعالى: «ولكنه أخلد إلى الأرض»، أي نزع إلى الدنيا، وركن إليها.

# دين # تاريخ # معرفة

«معركة خلدة»: عن الهزائم التي تلد انتصارات
هدد بقاء الإمبراطورية: التعصب الرياضي في القسطنطينية
رشيد رضا: لماذا تخلى عن عباءة الإصلاح الديني؟

معرفة